عودة اللاجئين السوريين: بين الآمال المعلقة وضبابية المستقبل
أ.د ماريز يونس
أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية
في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها سوريا، تبرز قضية عودة اللاجئين السوريين كإحدى أكثر القضايا تعقيداً وإلحاحاً. وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، هناك أكثر من 5.5 مليون لاجئ في الخارج. وبينما تبدو العودة حلمًا يراود الكثيرين، إلا أنها تصطدم بواقع هش تتشابك فيه الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
التكاليف البشرية والاجتماعية للأزمة السورية
خلفت الحرب السورية إرثاً ثقيلاً. تجاوز عدد القتلى المدنيين وفقاً لتقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 227,000 شخص منذ عام 2011. كما وثقت الشبكة وجود أكثر من 112,000 مختفٍ قسرياً حتى أغسطس 2023. بينما يعيش أكثر من 6.8 مليون نازح داخلياً في ظروف قاسية تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.
تحذيرات الأمم المتحدة: العودة قبل الأوان
حذّرت الأمم المتحدة من التسرّع في إعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، مشدّدة على أن الظروف الحالية في سوريا لا تضمن عودة آمنة وكريمة لهم. وأعربت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عن قلقها البالغ من استمرار غياب الأمن والاستقرار، بالإضافة إلى التحديات الإنسانية الخطيرة التي يواجهها السكان داخل سوريا، بما في ذلك الافتقار إلى البنية التحتية الأساسية والخدمات الحيوية. وطالبت المفوضية المجتمع الدولي والدول المستضيفة بالالتزام بمبدأ “عدم الإعادة القسرية”، مؤكدة أن العودة يجب أن تكون طوعية وقائمة على قرارات مبنية على معلومات واضحة تضمن حماية حقوق اللاجئين وسلامتهم. كما دعت الأمم المتحدة إلى تعزيز الدعم للاجئين في البلدان المستضيفة، بدلاً من دفعهم إلى العودة في ظل الأوضاع الراهنة.
غياب الضمانات القانونية والاجتماعية للعودة
يمثل غياب الضمانات القانونية والاجتماعية عائقاً رئيسياً أمام عودة اللاجئين. غيرت الحرب التركيبة السكانية في العديد من المناطق السورية نتيجة للتهجير القسري وإعادة التوطين، مما يجعل استعادة الممتلكات أو العودة إلى المناطق الأصلية أمراً محفوفاً بالنزاعات. كثير من اللاجئين فقدوا وثائقهم القانونية أثناء النزوح، ما يضعهم في موقف ضعيف أمام مؤسسات حكومية ما زالت في طور التشكل. إضافة إلى ذلك، يزيد غياب الأطر القانونية المستقلة التي تضمن حقوق الملكية وفض النزاعات من تعقيد هذه المسألة. العودة في ظل هذه الظروف قد تعيد إنتاج النزوح من جديد، ما يزيد من معاناة اللاجئين بدلاً من تخفيفها.
الضبابية السياسية والاقتصادية
تشكل الضبابية سمة أساسية للمشهد السياسي والاقتصادي في سوريا. حالة اللايقين هذه، كما يشير إدغار موران، هي نتاج للأزمات المعاصرة التي تتشابك فيها عوامل متعددة. سوريا الآن تعيش انتقالاً من نظام سياسي إلى آخر، دون أن يتم تشكيل نقطة توازن جديدة. هذا الفراغ السياسي الذي يتعزز بفعل التدخلات الإقليمية والدولية، قد يطيل أمد عدم الاستقرار.
على المستوى الاقتصادي، فإن الانهيار الشامل يمثل تحدياً إضافياً. دمرت الحرب البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك المنازل والمدارس والمستشفيات، مما يجعل من الصعب تهيئة الظروف لعودة كريمة ومستدامة للاجئين راهنًا. فإن التدهور الاقتصادي يخلق ما سماه بيير بورديو “اللايقين الهيكلي”، حيث يجد الأفراد أنفسهم عالقين في دوامة من عدم الاستقرار والفقر.
الانقسامات الطائفية والإثنية
تمثل الانقسامات الطائفية والإثنية التي تفاقمت خلال سنوات الحرب عقبة أمام بناء دولة المواطنة والمؤسسات في الوقت الراهن. الهويات الطائفية، كما أشار إدوارد سعيد، غالباً ما تتحول إلى أدوات للصراع السياسي في غياب الدولة الجامعة. تعمقت في سوريا هذه الانقسامات خلال الحرب، ما يتطلب الحذر في إدارة المرحلة الانتقالية خوفا من أي تهديدات تؤدي إلى تقسيم البلاد لكيانات متصارعة تخضع لنفوذ أطراف خارجية. وعلى الرغم من التضامن الشعبي الذي يعكسه المجتمع المدني السوري وورشات التفكير التي تديرها النخب السورية داخليًا وخارجيًا بعد سقوط النظام، إلا أن الأقليات مثل العلويين والدروز والمسيحيين والأكراد، قد تشعر بالقلق والخوف من التهميش أو الانتقام الفردي في ظل نظام سياسي انتقالي جديد.
أفق بناء عقد اجتماعي جديد
يتطلب بناء عقد اجتماعي جديد في سوريا تجاوز الأزمات الراهنة من خلال تحقيق العدالة الانتقالية كأساس ضامن لمصالحة وطنية حقيقية. وكما أشار جان جاك روسو في The Social Contract، فإن العقد الاجتماعي يجب أن يعكس إرادة المواطنين ويضمن حقوقهم، مما يتطلب وضع دستور جديد يضمن المساواة والتعددية ويعزز سيادة القانون.
ورغم التحديات الكبيرة، فإن الأزمة السورية تحمل فرصاً للتحول والبناء، حيث يُعد بناء مؤسسات قوية وشفافة قادراً على استعادة الثقة بين المواطنين والدولة. إن العقد الاجتماعي الجديد ليس مجرد وثيقة سياسية، بل هو التزام مشترك بين جميع الأطراف للعمل من أجل مستقبل أفضل. وكما قال إيمانويل كانط: “السلام الدائم لا يتحقق إلا من خلال العدالة وحكم القانون”، فإن تحقيق العدالة في سوريا هو المفتاح لإعادة بناء دولة موحدة ومستقرة تعكس تطلعات شعبها نحو حياة كريمة ومستقبل أفضل.
قائمة المصادر والمراجع
- موران، إدغار. (1990). مقدمة إلى الفكر المركب. باريس: دار نشر إيدسيون دو سويي.
- Said, E. W. (1993). Culture and Imperialism. Penguin Books.
- Huntington, S. P. (1996). The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order. Simon & Schuster.
- Sartre, J.-P. (1943). Being and Nothingness. Routledge.
- Rawls, J. (1971). A Theory of Justice. Harvard University Press.
- Rousseau, J.-J. (1762). The Social Contract. Dover Publications.
- Arendt, H. (1951). The Origins of Totalitarianism. Harcourt Brace.
- Betts, A. (2013). Survival Migration: Failed Governance and the Crisis of Displacement. Cornell University Press.
- Collier, P. (2009). Wars, Guns, and Votes. Harper Collins.
- Kilcullen, D. (2013). Out of the Mountains: The Coming Age of the Urban Guerrilla. Oxford University Press.
- Syrian Network for Human Rights (SNHR). Reports available at https://snhr.org.
- Amnesty International. Reports available at https://www.amnesty.org.
- United Nations High Commissioner for Refugees (UNHCR). Reports available at https://www.unhcr.org.
- Human Rights Watch (HRW). Reports available at https://www.hrw.org.
- United Nations. Various Reports available at https://www.un.org.
Comments are closed for this post.